الوصية السادسة :
"وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"
تصدرت الآية الثانية والخمسين بعد المائة من السورة نفسها ، قال الله تعالى :
"وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"
لقد شاء الله تبارك وتعالى واقتضت حكمته أن يأتي هذا الدين الخاتم على يد يتيم يكون هو النبي الخاتم ،
هذا اليتيم الكريم قد عهد الله إليه بأشرف مهمة في الوجود عندما شرفه بإبلاغ الرسالة إلى الناس كافة ،
وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي منه هذا التوجيه الوارد في الآية .
واليتيم ضعيف في الجماعة بفقده الوالد الحاني والمربي ، ومن ثم تقع مسؤولية حمايته وكفالته على المجتمع المسلم ، على أساس التكافل الاجتماعي الذي جعلته الشريعة قاعدة نظامه الاجتماعي .
ولقد كان اليتيم يعاني من الضياع والتشرد والاستغلال في المجتمع الجاهلي ، حتى جاء دين الإسلام فأنقذه من هذا الضياع ورتب له حقوقاً يتعين صيانتها ،
ومن حقوقه حفظ أمواله وتنميتها ، وعدم قربانها إلا بما يصلحها ،
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم ؛ حتى يسلمه له كاملاً نامياً ،
وقوله تعالى : "حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ" ليس غاية للنهي ،
إذ ليس المعنى إذا بلغ اليتيم سن الرشد فاقربوا ماله ، إنما المعنى أنهاكم – أيها الأولياء والأوصياء – عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أنفع له ،
وعليكم أن تستمروا على ذلك حتى يبلغ اليتيم رشده ، فإذ بلغ رشده فسلموا إليه ماله ليتصرف فيه التصرف السليم .
فالنهي في الآية ليس عن أكل مال اليتيم ، بل عن مجرد القرب منه ،
وفي ظل قاعدة التكافل الوارفة الظلال ، عني الإسلام باليتيم وأمواله ؛ فدعانا إلى حسن استثمار أموال اليتيم للإنفاق من عائدها عليه ، قال تعالى :
"وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا"
النساء ﴿٥﴾
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
"من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"
رواه الدارقطني والبيهقي
ويتعين حسن تربية اليتيم وتعليمه وتدريبه على إدارة أمواله قبل دفعها إليه ، قال تعالى :
"وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا"
النساء ﴿٦﴾
فعلى الولي أن يسلم المال لليتيم نامياً كاملاً عند بلوغه أشده ، واكتمال قوته البدنية والعقلية ؛
ليكون قادراً على حفظ ماله ، ويحسن القيام عليه، وبذلك يكون اليتيم قد استوفى حقه ، وحصل على ماله كاملاً ،
مع ما تحقق له من الكسب والربح نتيجة حسن تصرف الولي وقيامه على المال بما يصلحه ،
وبهذا التصرف الحكيم ، لا يكون اليتيم هو من فقد أبويه أو أحدهما في المجتمع المسلم الرشيد ؛
لأن المجتمع الإيماني ، اليتيم فيه مكفول الحق ، فقد أباه فكان له من المؤمنين آباء ، وفقد أمه فكان له من المؤمنات أمهات .
إنما اليتيم من لم يحظ بكفالة أبيه ، وينعم برعايته ، ويستفيد من مصاحبته والحوار معه ، ولم ينعم بحنان أمه وشفقتها وعطفها :
ليس اليتيم من انتهى أبواه
من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أما تخلت أو أباً مشغولا
أحمد شوقي
وقد أولت شريعة الإسلام عنايتها بالأيتام ، من تدبير شؤونهم ، ورعاية مصالحهم ،
وليس أدل على ذلك مما ذكره الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ، حيث تحدث عن اليتيم في ثلاثة وعشرين موضعاً في القرآن الكريم ،
كلها تدعوا إلى رعايتهم ، والحفاظ على أموالهم ، والسهر على مصالحهم ،
بل وتشدد النكير على من تسول له نفسه أن يعتدي على أموالهم ، أو يأكل شيئاً من حقوقهم ، قال تعالى :
"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"
النساء ﴿١٠﴾
الوصية السابعة :
"وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"
وهذه المبادلات التجارية بين الناس ، في حدود الطاقة ، وحسن التصرف والإنصاف ، وسياق الوصايا في الآيات يربطها بالعقيدة ، والموصي والآمر هو الله جل وعلا ،
والمعنى : وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون ، أو لغيركم فيما تبيعون ،
فهو أمر من الله تعالى لعباده بإقامة العدل حال التعامل :
"وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"
الإسراء ﴿٣٥﴾
فيتعين أن يعطى صاحب الحق حقه من غير نقص ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير زيادة .
وهذه الوصية تمثل مبدأ العدل في التعامل، والتعادل بين صاحب الحق ومن له الحق ، وحال الناس لا تستقيم إلا بالتعامل وتبادل المنافع .
والكيل والوزن هما من أظهر الوسائل في ذلك ، فلابد أن يكونا منضبطين وقائمين على القسط والعدل ،
وقوله تعالى : "لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"، جاءت عقب الأمر بايفاء الكيل والوزن بالعدل ،
ولكن بقدر الطاقة للدلالة على الترخيص فيما خرج عن الوسع والقدرة ؛ لبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج ؛
وذلك لأن التبادل التجاري لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة والتبادل ، بل الشأن فيه أن يقبل اليسير من الغبن في جانب البائع ، أو في جانب المشتري ،
وهذه الوصية تجمع في ثناياها بين الدقة والسماحة ، وبين الضبط ورفع الحرج .
الوصية الثامنة :
"وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى"
هنا نجد الإسلام يرقى بالضمير البشري إلى درجة عالية ومنزلة رفيعة ؛
لأن ههنا مزلة من مزلات الضعف البشري ، الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد بما أنه ضعيف ناقص ،
ويجد في قوة القرابة سنداً لضعفه ، ومن ثم يجعله ذلك ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم ، أو القضاء بينهم وبين الناس ،
فعليه أن يحكم بالعدل ، فالعدل هو الأساس للحكم السليم .
والعدل مطلوب في القول من الشهادة ونحوها في كل الأحوال ، كما أن العدل مطلوب في الفعل وفي الحكم ،
وجاء التخصيص في الآية بالقول ؛ لأن أكثر ما يكون فيه العدل أقوال ، كالشهادة والحكم .
وقوله تعالى : "وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى"،
فهو أخذ بالإنسان عما جرت به عادته ، من التأثر لغيرهم ؛
ولهذا تعين على المسلم أن ينطق بالحق ، ويقول الصدق ، دون أن يميل للقرابة ، أو تحمله العداوة على الظلم والإجحاف للآخرين ، قال تعالى :
"وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"
المائدة ﴿٨﴾
الوصية التاسعة :
"وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا"
الوفاء بالعهد أصل من أصول الشريعة التي يتحقق من خلالها الخير والعدل والصلاح ، واستقامة أحوال المجتمع ،
فعلى المسلم أن يكون وفياً مع الله ، فيما عاهد عليه الله من الاستقامة على العقيدة ، والبعد عن قتل الولد أو إهماله ، وعدم ممارسة الفواحش ، ما ظهر منها وما بطن ، وصيانة النفوس ، والمحافظة على مال اليتيم ، وحسن التعامل في الكيل والوزن ، وكل المبادلات التجارية ، وتطبيق العدل على كل الناس .
وبالجملة فيتعين على كل مسلم الوفاء بما عاهد عليه الله :
"وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً " الإسراء ﴿٣٤﴾
وقول الله تعالى : "وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا"
الفتح ﴿١٠﴾
وقوله تعالى : "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴿٢٣﴾
لِّيَجْزِيَ اللَّـهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿٢٤﴾"
الأحزاب
وقال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" المائدة ﴿١﴾
فالمسلم عليه الوفاء بكل التزام من عقد أو عهد ؛ لأن تنفيذ العهد دليل بر ووفاء ،
والإخلال به من مظاهر الكفر والنفاق ، قال عليه الصلاة والسلام ، فيما يرويه عن ربه عز وجل :
"ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ :
رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ"،
البخاري في صحيحه
عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال :
"يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانٍ"
الْبُخَارِيُّ
الوصية العاشرة :
"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"
وهذه الوصية تمثل خلاصة الدين كله ؛ لأن من التزم بصراط الله فقد اهتدى إلى سواء السبيل ، وسلك طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
والالتزام بسبيل الله يعصم من الزلل ، ويحمي من السوء ، ولأن الصراط هو دين الله وطريقه الذي لا عوج فيه ولا أمتا .
فمن الواجب على كل مسلم أن يسلك هذا السبيل ، ويهتدي بهذا الصراط ، ويترك السبل الباطلة ، والطرق المعوجة ، والمبادئ الفاسدة ، والأديان المنسوخة .
عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ :
{خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا فَقَالَ : " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ" .
ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا يَمِينًا وَشِمَالا ، ثُمَّ قَالَ :
"هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ،
ثُمَّ قَرَأَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)
سورة الأنعام آية 153 "}
وبعد : فهذه هي الوصايا العشر التي اشتملت على أسمى وأصدق وأفضل ألوان التربية للأفراد والجماعات ،
إذ المتأمل فيها يراها قد وضعت أساس العقيدة السليمة ، القائمة على إخلاص العبادة لله الواحد القهار ،
كما يجدها قد أقامت الأسرة الفاضلة على أساس الإحسان بالوالدين ، والرحمة بالأولاد ،
كما أنها قد حفظت المجتمع من التصدع والاضطراب عن طريق تحريمها لانتهاك الأنفس والأموال والأعراض ،
ثم ربطت كل ذلك بتقوى الله تعالى التي هي منبع كل خير وسبيل كل فلاح ، وهي جماع الأمر كله وهي الغاية التي يتحقق معها الفوز والظفر بالمطلوب .
فالتقوى كما فسرها العلماء هي :
ألا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك ، وبها صلاح الأمر كله.
فالتقوى في القلب هي التي تؤهل الإنسان للانتفاع بهذا الكتاب ،
هي التي تفتح مغاليق القلب له ، فيدخل ويؤدي دوره ،
هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط ، وأن يتلقى وأن يستجيب ....
ورد أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، سأل أبي بن كعب رضي الله عنه عن التقوى ، فقال له :
(أما سلكت طريقاً ذا شوك ؟ قال: بلى !
قال: فما عملت ؟ قال : شمرت واجتهدت .
قال: فذلك التقوى).
فتلك التقوى حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة ، وحذر دائم ، وخوف لأشواك الطريق ..
طريق الحياة الذي تتجاذبه الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء ، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا ..
وإذاً فالتقوى جماع الخير كله ، وبها صلاح الأمر كله ،
"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴿٥٤﴾ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴿٥٥﴾"
القمر
نسأل الله تعالى أن يسلك بنا طريق المتقين ، وأن يجعلنا من الفائزين ،
وأن يهدينا صراطه المستقيم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.