{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} * {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} * {وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} * {ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ} * {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} * {وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} * {ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}
وتلاوة كتاب الله تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت. تعني تلاوته عن تدبر، ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك. ومن ثم يتبعها بإقامة الصلاة، وبالإنفاق سراً وعلانية من رزق الله. ثم رجاؤهم بكل هذا { تجارة لن تبور }.. فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون. ويتاجرون تجارة كاسبة مضمونة الربح. يعاملون فيها الله وحده وهي أربح معاملة؛ ويتاجرون بها في الآخرة وهي أربح تجارة.. تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم، وزيادتهم من فضل الله. { إنه غفور شكور }.. يغفر التقصير ويشكر الأداء. وشكره ـ تعالى ـ كناية عما يصاحب الشكر عادة من الرضا وحسن الجزاء. ولكن التعبير يوحي للبشر بشكر المنعم. تشبهاً واستحياء. فإذا كان هو يشكر لعباده حسن الأداء أفلا يشكرون له هم حسن العطاء؟!
ثم إشارة إلى طبيعة الكتاب، وما فيه من الحق، تمهيداً للحديث عن ورثة هذا الكتاب:
{ والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق، مصدقاً لما بين يديه. إن الله بعباده لخبير بصير }..
ودلائل الحق في هذا الكتاب واضحة في صلبه؛ فهو الترجمة الصحيحة لهذا الكون في حقيقته، أو هو الصفحة المقروءة والكون هو الصفحة الصامتة. وهو مصدق لما قبله من الكتب الصادرة من مصدره. والحق واحد لا يتعدد فيها وفيه. ومنزله نزله للناس وهو على علم بهم، وخبرة بما يصلح لهم ويصلحهم: { إن الله بعباده لخبير بصير }..
هذا هو الكتاب في ذاته. وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة، اصطفاها لهذه الوراثة، كما يقول هنا في كتابه:
{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }..
وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه الأمة بكرامتها على الله؛ كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا الاصطفاء وعن تلك الوراثة. وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف، فهل تسمع الأمة المصطفاة وتستجيب؟
إن الله سبحانه قد أكرم هذه الأمة بالاصطفاء للوراثة؛ ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء:
{ فمنهم ظالم لنفسه. ومنهم مقتصد. ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله }..
فالفريق الأول ـ ولعله ذكر أولاً لأنه الأكثر عدداً ـ { ظالم لنفسه } تربى سيئاته في العمل على حسناته والفريق الثاني وسط { مقتصد } تتعادل سيئاته وحسناته. والفريق الثالث { سابق بالخيرات بإذن الله } ، تربى حسناته على سيئاته.. ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعاً. فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في الآيات التالية. على تفاوت في الدرجات.
ولا ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه الأمة باصطفائها، وكرم الله سبحانه في جزائها. فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا، وهي النهاية التي تنتهي إليها هذه الأمة جميعاً ـ بفضل الله ـ ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من جزاء مقدر في علم الله.
نطوي هذا الجزاء المبدئي لنخلص إلى ما قدره الله لهذه الأمة بصنوفها الثلاثة من حسن الجزاء:
{ ذلك هو الفضل الكبير. جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير. وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. إن ربنا لغفور شكور. الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب }..
إن المشهد يتكشف عن نعيم مادي ملموس، ونعيم نفسي محسوس. فهم { يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير }.. وذلك بعض المتاع ذي المظهر المادي، الذي يلبي بعض رغائب النفوس، وبجانبه ذلك الرضا وذلك الأمن والاطمئنان: { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن }.. والدنيا بما فيها من قلق على المصير، ومعاناة للأمور تعد حزناً بالقياس إلى هذا النعيم المقيم. والقلق يوم الحشر على المصير مصدر حزن كبير. { إن ربنا لغفور شكور }.. غفر لنا وشكر لنا أعمالنا بما جازانا عليها. { الذي أحلَّنا دار المقامة }.. للإقامة والاستقرار { من فضله } فما لنا عليه من حق، إنما هو الفضل يعطيه من يشاء. { لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب }.. بل يجتمع لنا فيها النعيم والراحة والاطمئنان.
فالجو كله يسر وراحة ونعيم. والألفاظ مختارة لتتسق بجرسها وإيقاعها مع هذا الجو الحاني الرحيم. حتى { الحزن } لا يتكأ عليه بالسكون الجازم. بل يقال " الحزَن " بالتسهيل والتخفيف. والجنة { دار المقامة }. والنصب واللغوب لا يمسانهم مجرد مساس. والإيقاع الموسيقي للتعبير كله هادئ ناعم رتيب.