تفسير سورة النصر لابن كثير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
سورة النصر :
قد تقدم أنها تعدل ربع القرآن وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن .
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قال لي ابن عباس يا ابن عتبة أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت ؟ قلت نعم " إذا جاء نصر الله والفتح " قال صدقت .
وروى الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة البريدي عن صدقة بن يسار عن ابن عمر قال : أنزلت هذه السورة " إذا جاء نصر الله والفتح " على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق فعرف أنه الوداع فأمر براحلته القصواء فرحلت ثم قام فخطب الناس فذكر خطبته المشهورة .
وعن ابن عباس قال : لما نزلت" إذا جاء نصر الله والفتح " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال " إنه قد نعيت إلي نفسي " فبكت ثم ضحكت وقالت أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ثم قال اصبري فإنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت وقد رواه النسائي كما سيأتي بدون ذكر فاطمة .
قال البخاري عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر إنه ممن قد علمتم فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال ما تقولون في قول الله عز وجل " إذا جاء نصر الله والفتح " ؟ فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت لا فقال ما تقول ؟ فقلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال " إذا جاء نصر الله والفتح " فذلك علامة أجلك قال عمر بن الخطاب لا أعلم منها إلا ما تقول
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا
وقال الإمام أحمد .. عن ابن عباس قال لما نزلت " إذا جاء نصر الله والفتح " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعيت إلي نفسي " فإنه مقبوض في تلك السنة تفرد به أحمد وروى العوفي عن ابن عباس مثله وهكذا قال مجاهد وأبو العالية والضحاك وغير واحد إنها أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه .
وقال ابن جرير عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال " الله أكبر الله أكبر جاء نصر الله والفتح جاء أهل اليمن - قيل يا رسول الله وما أهل اليمن ؟ قال - قوم رقيقة قلوبهم لينة طباعهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية" .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بعد ذلك " جاء الفتح ونصر الله وجاء أهل اليمن " فقال رجل يا رسول الله وما أهل اليمن ؟ قال " قوم رقيقة قلوبهم لينة طباعهم الإيمان يمان والفقه يمان "
عن أبي سعيد الخدري أنه قال لما نزلت هذه السورة " إذا جاء نصر الله والفتح " قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها فقال " الناس خير وأنا وأصحابي خير - وقال - لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" فقال له مروان كذبت وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت قاعدان معه على السرير فقال أبو سعيد لو شاء هذان لحدثاك ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة فرفع مروان عليه الدرة ليضربه فلما رأيا ذلك قالا صدق . تفرد به أحمد وهذا الذي أنكره مروان على أبي سعيد ليس بمنكر فقد ثبت من رواية ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح " لا هجرة ولكن جهاد ونية ولكن إذا استنفرتم فانفروا " أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما
فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر رضي الله عنهم أجمعين من أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره ونسبحه يعني نصلي له ونستغفره معنى مليح صحيح . وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات فقال قائلون هي صلاة الضحى وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافرا لم ينو الإقامة بمكة ؟ ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبا من تسع عشرة يوما يقصر الصلاة ويفطر هو وجميع الجيش وكانوا نحوا من عشرة آلاف قال هؤلاء وإنما كانت صلاة الفتح قالوا فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن ثم قال بعضهم يصليها كلها بتسليمة واحدة والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين كما ورد في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين وأما ما فسر به ابن عباس وعمر رضي الله تعالى عنهما من أن هذه السورة نعي فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الكريمة وأعلم أنه إذا فتحت مكة وهي قريتك التي أخرجتك ودخل الناس في دين الله أفواجا فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا فالآخرة خير لك من الدنيا ولسوف يعطيك ربك فترضى .
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
حدثنا حفص حدثنا عاصم عن الشعبي عن أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال " سبحان الله وبحمده " فقلت يا رسول الله رأيتك تكثر من سبحان الله وبحمده لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت : سبحان الله وبحمده قال : إني أمرت بها فقال " إذا جاء نصر الله والفتح" إلى آخر السورة .
عن أبي عبيدة عن عبد الله قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جاء نصر الله والفتح " كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم " ثلاثا تفرد به أحمد .
. وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي الحديث وقد حررنا غزوة الفتح في كتابنا " السيرة " فمن أراد فليراجعه هناك ولله الحمد والمنة .
وقال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني جار لجابر بن عبد الله قال قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله فسلم علي فجعلت أحدثه عن افتراق الناس ومما أحدثوا فجعل جابر يبكي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا " .
ولله الحمد والمنة