لم تكن جوزيفين إلا امرأة من أصل ريفي أرملة .. وأم لطفلين .. وسجينة .. هكذا تعرف عليها نابليون بونابرت وباللحظة التي وقعت عيناه على عيناها كانت تقبع بثياب رثة في ظلمة الزنزانة لالذنب فقط لأنها كانت زوجة أحد الجنرالات الملكية في الثورة الفرنسية. منذ تلك اللحظة عمل نابليون وبكل ما أوتي من سلطة وقوة ولم يكن حينها قد لمع نجمه كامبراطور أن ينال ود هذه المرأة البائسة وأن يحظى باهتمامها من خلال سعيه الحثيث في لم شملها مع طفليها في السجن ثم إطلاق سراحها ثم الحصول على قلبها والزواج منها. تجتمع كل الروايات التاريخية في أمهات الكتب على أن جوزيفين ما كانت تتمتع بجمال باهر ولابذكاء خارق ولابدهاء وكيد النساء المعروف منذ الأزل، بل كانت امرأة في غاية البساطة والتواضع والطيبة والحنية، فاستطاعت بهذه الصفات المتواضعة في نظر الكثيرين أن تجذب انظار أعظم رجالات عصرها وأن تنال اهتمامه وأن تزرع حبها في قلبه وإلى الأبد. (أنا أفتتح الشعوب وجوزيفين تفتتح القلوب) .. كانت هذه عبارة نابليون بونابرت الشهيرة التي ظلت راسخة في صفحات التاريخ الإنساني، حتى أن أمه وشقيقاته أخذت نار الغيرة تعصف في نفوسهن حتى استطعن أن يدفعن بنابليون إلى تطليقها بحجة عدم انجابها أطفال منه، غير أنه رغم هذا بقي وفياً لها حتى في منفاه وكانت آخر رسالة تركها في حياته هي للمرأة التي استطاعت أن تكون أما .. وأختا .. وصديقة .. وحبيبة .. ألا وهي جوزيفين. بعد هذه القراءة التاريخية القصيرة لسيرة هذين الزوجين هل تساءلت إحدانا كيف استطاعت ريفية، أرملة، وأم، وسجينة، وامرأة ذات الجمال المتواضع أن تنال لقب (تفتتح القلوب)؟؟ في الواقع هي امرأة استطاعت أن تقرأ نفس وخوالج هذا المحارب وتدخل إلى كينونته، وعرفت لغته الخاصة فأجابته بنفس اللغة، وأدركت بأن الرجال يتعاملون مع المحيط بطريقة مختلفة عن النساء، فهم يفضلون الصمت عند التفكير ويدخلون الإعتزال للوصول إلى الحلول كما أن الرجال يريدون أن يشعروا بأنهم مازالوا اولئك الفرسان الشجعان في عيون حبيباتهم وينكسرون بمجرد ما أن يتعرضوا للنصح والإرشاد من قبلهن وبشكل مباشر. تعاملت هذه المرأة مع نصفها الآخر بعدة أشكال فهي كانت تتحول إلى تلك الأم الحنون عند المحن فكان يهرب نابليون بين الاجتماعات لينام في حضنها وكانت تستقبله وتحضنه كما تحضن الام صغيرها وتمسح على رأسه وتتعاطف معه في كل ما يحدثها حتى وإن كان هو الجاني وليس المجني عليه كما هي الأم مع صغيرها. وكان يجدها تارة أخرى تلك الصديقة الوفية الكاتمة لأسراره كإمبراطور فكان عند الحاجة يذهب إليها ليستشيرها رغم تواضع خبرتها وحنكتها السياسية غير أنها كانت خير مستمع له .. كانت تتوقف عن الحديث عند شعورها برغبته في سرد خوالجه .. حتى أنه في أحد الأيام جاء احد مستشاريه إلى مخدعه وطلب لقاءه فخرجت له جوزيفين مستنكره هذا لأنها كانت تعلم بأن الرجل عندما يشعر بالضيق أو الانزعاج يجب أن يبقى وحده حتى يهدأ ويعيد السيطرة على الأمور مرة أخرى .. كما أنها تعلم بأن الرجل عندما لايجد إجابة عن سؤال ما لايعرف أن يقول (أنا لاأجد حلا لذلك سأحتاج إلى بعض العزلة لأفكر) بل يعلن عن هذا بالصمت فقط. هذا بالإضافة إلى أنها كانت زوجة من الطراز الأول، فكانت تعي معنى الحميمية فتقبل مع إقباله وتتقبل لحظات تقهقره وإدباره وكانت تتعامل معه بنابليون الزوج والحبيب لابنابليون الإمبراطور المحاط بالنساء والشهرة والمجد، فلم تنخرط إلى طريق الغيرة النسائية ولم تدخله معها في أروقة هذا الطريق المتعرج. لذا كانت بحق تستحق لقب (تفتتح القلوب) لأنها وحدها كانت تملك مفتاح باب قلب فاتح الشعوب.
بقلم ... كوثر الكفيشي