نا قد شرعنا في ذكر الخصائص التي اختص بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجملة على سائر الرسل والأنبياء، وما ورد من بعض خصائصه فيما يتصل بأمته.
ثم وقفنا في درسين متتاليين مع المدح والثناء والذكر والإطراء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آيات القرآن الكريم، وعددنا في ذلك وجوها كثيرة ومعان عديدة وخصالاً جليلة لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وهذا الباب في وصف خَلْقِه -عليه الصلاة والسلام-؛
لأن الشمائل تسترسل معنا في وصف أخلاقه في سائر الأحوال والأنواع، ويذكر أهل الشمائل دائما ويفردون باباً لهذه الصفات الخَلْقية، ويدرجونها في شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك لأسباب عدة:
السبب الأول: أن الشمائل الخَلْقية من خصال الرجل، ومن تمام صفاته فكما يُعرف الرجل بالصفات الخُلُقية من حلم وصبر وشجاعة ونحو ذلك، فإنه يُعرف بصورة أظهر، وربما بشكل أكبر بصفاته الخَلْقية من لون أو طول أو قصر ونحو ذلك.
السبب الثاني: بيان كمال العناية بكل ما يتصل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نقل لنا أصحابه وصفاً دقيقاً لكل شيء متصل بخَلْقه، حتى إن السامع ليكاد يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأي العين من دقة ذلك الوصف وشموله لكل شيء في خِلْقته -عليه الصلاة والسلام-.
السبب الثالث: بيان كمال عناية الله -سبحانه وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فكما كمل وجمل وحسّن خُلُقه، كذلك حسن خَلْقه -عليه الصلاة والسلام- فلم يكن منزهاً عن العاهة والعيب فحسب، بل كان خَلْقه أتم خَلْق وأحسنه وأجمله وأبهاه وأنضره -عليه الصلاة والسلام- وهذا من كمال إكرام الله -عز وجل- له وعنايته به.
السبب الرابع: أن مما تتعلق به النفوس أيضاً جمال الخِلْقة وبهاء الطلعة، كما أن النفوس تتعلق بالأخلاق، وإن كان التعلق بالخُلُق والمعاملة هو الأكمل والأفضل، لكن اجتماعهما معاً هو الأكمل بالنسبة لذات الإنسان، وبالنسبة لتعلق الناس به ونظرهم إليه.
السبب الخامس: أن في خَلْقه -عليه الصلاة والسلام- شيء من علامات النبوة التي خُصَّ بها -صلى الله عليه وسلم- فهي أي: خِلْقته فيها دلالة على نبوته -عليه الصلاة والسلام- كما سيأتي ذكره في خاتم نبوته الذي كان بين كتفيه -عليه الصلاة والسلام-.
إذن عندما نذكر خَلْق النبي -صلى الله عليه وسلم- فليس ذلك شيئا زائدا وليس أمرا عارضا، وإلا لم يحتف به الأصحاب -رضوان الله عليهم- ولم يحرصوا على نقله، ولم تكن منهم تلك الدقة والوصف الشامل الكامل لخَلْقه -عليه الصلاة والسلام- وهذا باب من أبواب التعظيم.
وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة أقتصر منها على ما ورد في الصحيحين عند البخاري ومسلم، ثم سنذكر بعد ذلك شيئاً من الأوصاف الجامعة التي أوردها الترمذي - رحمه الله- في شمائله.
من ذلك ما ورد من حديث أنس -رضي الله عنه- وكان خادم -رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقريباً منه ولصيقاً به ومختلطاً اختلاطاً شديداً به، فكان من أكثر من وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حديثه عند الإمام البخاري في وصف -النبي عليه الصلاة والسلام-: "كان ربعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون ليس بأبيض أمهق، ولا آدم، ليس بجعد قطط، ولا سبط رجل أنزل عليه (يعني أوحي إليه) وهو ابن أربعين فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه، وبالمدينة عشر سنين، وقُبِض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
قال ربيعة -وهو ربيعة بن عبد الرحمن- الراوي عن مالك -رضي الله عنه-: فرأيت شَعراً من شعره فإذا هو أحمر، فسألت فقيل: احمرّ من الطيب.
وفي رواية أيضاً قريبة من هذا وتالية لها من رواية أنس عند البخاري في صحيحه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، وليس بالجعد القطط، ولا بالسبط، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، فتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
وهذا الحديث من الأحاديث التي فيها جمع لكثير من الصفات التي كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحاديث وصف خِلْقته -عليه الصلاة والسلام- تعد من الغرائب، أو من طوال الغرائب بالنسبة للغريب الذي فيها أي الكلمات التي لا يعرف معناها كثير من الناس، وذلك في الجملة بالنسبة لنا؛ لأننا لسنا عربا كما ينبغي، كثير من كلمات العربية الأصيلة لم يعد يتداولها الناس، وصاروا بها جاهلين وعن معانيها غافلين.
وربما -ونحن نقرأ هذا الحديث- نسمع من الكلمات ما مر علينا ولم نعرف معناه، بل ربما أصبح المعنى كله مبهما غير واضح، ولذا نقف وقفات بما يتيحه المقام في معاني هذا الحديث.
كان -صلى الله عليه وسلم- رَبْعة من القوم، ربعة بفتح الراء وسكون الباء أي: مربوعاً، والمقصود بربعة تأنيثها باعتبار النفس.
ويقال رجل ربعة وامرأة ربعة، وفسره الحديث في الرواية الأخرى: ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، المقصود أنه لم يكن طويلاً طولاً بائناً أي: مفرطاً في الطول، ليكون معه اضطراب القامة، بل كان مربوعاً كما ورد في رواية أخرى عن البراء بن عازب، وفي رواية عن أبي هريرة بإسناد حسن: كان ربعة وهو إلى الطول أقرب، وفي بعض الروايات لم يكن قصيرا تتقحمه العيون يعني: تنظر إليه إلى الأدنى، ولم يكن كذلك طويلاً مفرطاً، وهذا من كمال الاعتدال وصور الجمال.
وقال في تتمة الوصف: كان أزهر اللون، واللون الأزهر هو اللون الزهري، لكن المقصود أنه كان أبيضاً مشرباً بحمرة، أي: كان لونه أبيض لكن فيه شيء من الحمرة.
وقد وقع هذا الوصف صريحاً عند الإمام مسلم في صحيحه، وكذلك عند الحاكم من حديث علي-رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيض مشربا بياضه بحمرة.
وهذا فيه وجه من وجوه الجمال؛ لأن البياض كما ورد في نفس الحديث ليس بأمهق أي: البياض الذي ليس معه حمرة، ويكون فيه شيء مما لا تألفه العيون، ولا يكون وصفاً من أوصاف الجمال.
والعرب تسمي البياض المشرب بحمرة سماراً.
وهذا يفسر ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان أسمر، وذلك عند ابن حبان في صحيحه، وورد كذلك عند أحمد بسند حسن: "كان أسمر إلى البياض، يعني: فيه سمرة لكنه إلى البياض أقرب -عليه الصلاة والسلام-.
وإذا قلنا ليس بالأبيض، فالنفي المقصود: أنه ليس بأبيض بياضا مجردا لا حمرة فيه، وإن قيل في ذلك النفي: أنه ليس بأسمر، أي المقصود ليس فيه سمرة لا بياض معها، وإنما هذا كان على كمال الاعتدال، وأجل وأحسن صور الجمال للنبي -عليه الصلاة والسلام-.
والأمهق هو الذي كما قلنا يكون بياضه مفرطا لا يقلل من هذا البياض تلك الحمرة أو السمرة، وقد ورد في شعر أبي طالب في وصف النبي -عليه الصلاة والسلام-
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه
وذلك أيضا بيان لوصفه -عليه الصلاة والسلام- وورد وصف البياض في غير وجهه -عليه الصلاة والسلام- كما عند الإمام أحمد من حديث محرش الكعبي في عمرة الجعرانة، أنه قال: فنظرت إلى ظهره -صلى الله عليه وسلم- كأنه سبيكة فضة، وهذا فيه وصف بالبياض ليس فيه إشارة إلى السمرة أو الحمرة.
وقال أهل العلم: إنه ما كان يستره الثوب أو الثياب في العادة، فإنه كان البياض فيه أغلب، والسمرة فيه أقل، وأما الوجه المكشوف فكان كمال جماله -عليه الصلاة والسلام- فيه تلك السمرة مع ذلك البياض .
وقد ورد أيضا عن أبي هريرة في وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه: "كان شديد البياض" أخرجه البزار بسند قوي.
وهذا كما قلنا صورة وصفية فيها جمال وجلال، وقد ورد في وصف وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث أخرى سيأتي الحديث عنها استقلالا؛ لأنها وردت بها روايات خاصة مستقلة، وكثرت الروايات فيها، لأن أكثر ما يقابل الإنسان هو الوجه، فكثيرون ممن رأوا النبي -عليه الصلاة والسلام- كان أكثر وصفهم لوجهه، وما وصَفَ الأوصاف الدقيقة في كثير من أمور خِلْقته إلا المقربون منه، كأنس وغيره من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وتتمة الحديث في وصف شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بجعد قطط ولا سبط، الجعودة في الشعر: ألا يتكسر ولا يسترسل، فلم يكن كذلك، والسبوطة ضده أن يكون مسترسلا، فلا كان ذلك ولا كان ذلك، بل كان وسطا بينهما.
وقد ورد في بعض الأوصاف أنه كان منسرحا أو متسرحا، وهو بهذا المعنى الذي ورد عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
ثم جاء في تتمة الوصف في هذا الحديث عنه -عليه الصلاة والسلام- بعد ذكر نزول الوحي وكذا: أنه مات، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء، يعني لم يبلغ الشعر الأبيض عشرون فهو دون ذلك في رأسه وفي لحيته.
بل قد ورد الوصف دقيقا بذلك في أحاديث كثيرة في وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها: أن البياض في شعره لم يكن إلا في رأسه، وبعض شعرات في عنفقته في أعلى اللحية، وهذا لاشك أيضا أنه من كمال البهاء والجمال والاختصاص لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خصوصا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي وعمره ثلاثة وستون عاما، ومثل هذا السن يكون قد وخط الشيب رأسه ولحيته بلا شك، بل ربما يكون الشيب قد غلب على سواد شعره، فكان ذلك مزية لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- وإن كان الشيب كذلك إشارة الوقار، فقد كان منه -عليه الصلاة والسلام- قليل في شعره.
وقال ربيعة وهو الراوي للحديث كما قلنا: فرأيت شعرا من شعره فإذا هو أحمر.
وهذا يدلنا على دقة ملاحظة أصحاب -النبي عليه الصلاة والسلام- ودقة وصفهم لخَلْقه، رأى بعض شعرات فيها شيء من الاحمرار، قال: فسألت -في بعض الروايات مصرحا-: هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يخضب؟ قال: لا، وإنما احمرّ من الطيب. كان يستخدم الطيب -عليه الصلاة والسلام- ويكثر منه، فغلب أثر الطيب في آخر حياته، فاحمرت بعض شعرات لحيته، وهذا كما قلنا واضح في دلالة هذا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا كما قلنا من الأحاديث الجامعة في وصف -النبي صلى الله عليه وسلم-.